عاد خليج خور عبد الله ليكون بؤرة توتر جديدة بين العراق والكويت، بعدما كان يُعتقد أن ملفّه قد طُوي منذ سنوات. فقد أعاد قرار المحكمة الاتحادية العليا في العراق إلغاء اتفاقية ثنائية موقعة عام 2012 مع الكويت الخلاف إلى الواجهة، ليشتعل مجدداً نزاع السيادة بين البلدين.
يأتي هذا التطور في وقت يسعى فيه العراق إلى إعادة بناء علاقاته مع جيرانه في الخليج، وإلى تنويع اقتصاده بعيداً عن الاعتماد المفرط على الموارد الطبيعية، من خلال تعزيز دوره في التجارة الدولية.
جذور الخلاف وتداعياته الإقليمية
الخلاف حول خور عبدالله قديم ومعقد، وينبع من ادعاءات متعارضة بالسيادة ومصالح جيوسياسية واقتصادية متشابكة، ما أدى إلى تدخل أطراف إقليمية مثل مجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى قلق دولي من أن يشكل هذا النزاع سابقة خطيرة في ترسيم الحدود الإقليمية بعد النزاعات.
ويعكس الجدل أيضاً صراعاً داخلياً داخل العراق بين من يرون الاتفاقية السابقة «تنازلاً عن السيادة الوطنية»، ومن يعتقدون أن الحفاظ عليها يخدم الاستقرار والعلاقات الاقتصادية مع الجوار الخليجي.
يتجاوز الخلاف حدود الجغرافيا ليؤثر على خطط التنمية الإقليمية، لا سيما مشروع ميناء الفاو الكبير ومشروع طريق التنمية في العراق، اللذين يهدفان إلى جعل البلاد مركزاً لوجستياً يربط الخليج بأوروبا.
في المقابل، يرى مسؤولون عراقيون أن ميناء مبارك الكبير الكويتي، وهو جزء من رؤية الكويت 2035 ومبادرة الحزام والطريق الصينية، يقيّد حركة الملاحة العراقية ويهدد جدوى مشاريعها البحرية، بينما تؤكد الكويت أن مشروعها يعزز التكامل التجاري الإقليمي ولا يتعارض مع مصالح العراق.
أزمة السيادة والحدود بعد النزاعات
يُبرز النزاع حول خور عبدالله تعقيدات ترسيم الحدود بعد الحروب وصعوبة الحفاظ على التوازن بين الاعتبارات القانونية والسياسية. فالقضايا الفنية المتعلقة بالاتفاقيات قد تتحول بسهولة إلى أزمات جيوسياسية تمس الأمن الإقليمي بأكمله.
وبالنظر إلى الطبيعة المعقدة والمشحونة سياسياً للنزاع، خاصة من الجانب العراقي، قد يكون من الصعب التوصل إلى حل ثنائي مباشر بين بغداد والكويت. ولهذا، يرى مراقبون أن الهيئات القانونية الدولية يمكن أن تلعب دور الحكم المحايد في تسوية هذا الخلاف، بما يحافظ على استقرار العلاقات الخليجية ويمنع تصعيداً جديداً في المنطقة.
قرار المحكمة العليا العراقية يعمّق الانقسام الداخلي
أثار قرار المحكمة الاتحادية العليا في العراق عام 2023، الذي قضى بإلغاء الاتفاقية الثنائية الموقعة مع الكويت بشأن خور عبدالله، جدلاً واسعاً داخل العراق وخارجه، إذ أعاد النزاع الحدودي القديم إلى الواجهة وألقى بظلاله على العلاقات بين البلدين.
المفارقة أن قرار الإلغاء لم يستند إلى مضمون الاتفاقية نفسها، بل إلى أسباب إجرائية بحتة، حيث أكدت المحكمة أن الانتهاكات الإجرائية في عملية التصديق جعلت الاتفاقية «باطلة منذ البداية»، وبالتالي غير ملزمة للعراق وفقاً للقانون الدولي.
وأوضحت المحكمة أن تصديق الاتفاقية خالف المادة (61/4) من الدستور العراقي، التي تشترط أغلبية الثلثين في البرلمان للموافقة على المعاهدات الدولية. وفي حين تم التصديق على الاتفاق عام 2012 وفقاً لقانون عام 1979، لم يكن هذا القانون يتضمن شرط الأغلبية الدستورية الجديدة.
واستندت المحكمة في حكمها إلى مبدأ سمو الدستور على القوانين العادية، معتبرة أن القانون الذي أجاز الاتفاقية بأغلبية بسيطة يتعارض مع أحكام الدستور. كما أشارت إلى أن اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969، وتحديداً المادة 46 منها، تتيح للدول إبطال موافقتها على أي معاهدة إذا كانت هذه الموافقة قد تمت بمخالفة واضحة لقوانينها الداخلية الخاصة بسلطة إبرام المعاهدات.
جدل حول دوافع القرار وتوقيته
ورغم وجاهة الأساس القانوني للحكم من الناحية النظرية، أثار القرار تساؤلات سياسية واسعة، خاصة وأن المحكمة نفسها كانت قد رفضت دعوى مشابهة لإلغاء الاتفاق عام 2014.
كما جاءت الخطوة في وقت تواجه فيه المحكمة انتقادات متزايدة بشأن استقلاليتها، إذ اتهمها مراقبون بإصدار قرارات ذات طابع سياسي خلال السنوات الأخيرة، مما أدى إلى أزمة داخلية انتهت بتغيير رئاستها مؤخراً.
وأثار تضمين المحكمة في حكمها عرضاً تاريخياً عن السيادة على المنطقة انتقادات إضافية، إذ رأى قانونيون أن هذه التفاصيل تتجاوز نطاق المسألة الإجرائية التي استند إليها الحكم.
بين السيادة والتعاون الإقليمي
في الأوساط السياسية العراقية، يرى البعض أن اتفاقية عام 2012 مع الكويت تمثل تنازلاً عن السيادة البحرية العراقية، لأنها تمنح الكويت ـ حسب وصفهم ـ سيطرة فعلية على جزء من الممرات البحرية المؤدية إلى الموانئ العراقية.
في المقابل، تعتبر الكويت الاتفاقية معاهدة دولية شرعية وملزمة، مؤكدة أن العراق ملزم باحترامها وتنفيذها.
أعاد القرار العراقي التوتر إلى العلاقات الخليجية، في وقت تسعى فيه بغداد إلى تعزيز تعاونها الاقتصادي مع جيرانها. فبينما يرى مؤيدو قرار المحكمة أنه تأكيد على الالتزام بالإجراءات الدستورية، يرى معارضوه أنه يعرقل مسار الانفتاح الإقليمي ويزيد من تعقيد العلاقات مع الكويت.
في ظل هذا الانقسام الداخلي والتجاذب الإقليمي، يبدو أن حل النزاع حول خور عبدالله لن يكون سهلاً، وأن اللجوء إلى المسارات القانونية الدولية قد يصبح الخيار الأكثر واقعية لتجنب تصعيد جديد بين البلدين.
تصاعد الجدل الداخلي وتوتر دبلوماسي بين العراق والكويت
أحدث قرار المحكمة الاتحادية العليا العراقية بإلغاء اتفاقية خور عبدالله تداعيات سياسية وقانونية واسعة داخل العراق، إذ تحوّل الخلاف إلى محرك رئيسي للانقسام السياسي وأثار قلقاً دبلوماسياً في المنطقة.
فقد قدّم رئيس الوزراء محمد شياع السوداني ورئيس الجمهورية عبد اللطيف رشيد طلبين لإعادة النظر في الحكم بهدف إلغائه أو تعديله، محذرَين من تبعاته القانونية والدبلوماسية الخطيرة. وأوضح رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان أن إبطال الاتفاقية يهدد بإرباك العلاقات الخارجية للعراق.
وبعد سلسلة من المداولات الداخلية، طلب السوداني من البرلمان إعادة التصديق على الاتفاقية، في إشارة إلى رغبته في الحفاظ عليها لأسباب دبلوماسية.
لكن في المقابل، وقّع نحو مئتي نائب عراقي على عريضة تطالب بـ إلغاء رسمي لاتفاقية 2012 البحرية مع الكويت، واصفين إياها بأنها «تنازل مهين» أضرّ بسيادة العراق واستُغلّت فيه هشاشته الدولية بعد حرب الخليج عام 1991.
الموقف الكويتي: الاتفاقية شرعية وملزمة دولياً
من جانبها، تؤكد الكويت أن اتفاقية 2012 مع العراق تمثل معاهدة دولية صحيحة وملزمة، مشيرة إلى أنها مسجّلة في الأمم المتحدة وفق المادة (102) من ميثاقها. وترى الكويت أن هذه الاتفاقية تُوّجت جهود تطبيع العلاقات بعد حرب الخليج، واستندت إلى قرار مجلس الأمن رقم 833 (1993) الذي رسم الحدود البرية بين البلدين.
واتهم مسؤولون كويتيون العراق بمحاولة «إعادة كتابة التاريخ» بعد مرور عقود على الاتفاق، معتبرين اعتراضاته الأخيرة سياسية وليست قانونية. وقال رئيس الوزراء الكويتي الشيخ أحمد نواف الصباح إن حكم المحكمة العراقية تضمن «أخطاء تاريخية فادحة».
الأسس القانونية للنزاع
يرتكز النزاع القانوني حول خور عبدالله على خليط من الاتفاقيات الثنائية والمعاهدات الدولية والقانون البحري الدولي.
وفق اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969، تنص المادة 26 على مبدأ وجوب احترام المعاهدات المبرمة بشكل صحيح (pacta sunt servanda)، وهو ما تستند إليه الكويت لتأكيد شرعية الاتفاقية. في المقابل، تمنح المادة 46 الدول حق إبطال موافقتها على المعاهدة إذا ثبت أن التصديق عليها تم بمخالفة واضحة لقوانينها الداخلية.
كما يرتبط النزاع بـ اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS)، ولا سيما المواد 15 و74 و83 المتعلقة بترسيم الحدود البحرية والوصول العادل للمياه المشتركة، والمواد 17–19 التي تكفل حق المرور البريء.
وتتيح المادة 287 من الجزء الخامس عشر تسوية النزاعات عن طريق المحكمة الدولية لقانون البحار (ITLOS) أو محكمة العدل الدولية (ICJ) أو التحكيم الدولي.
إلى جانب ذلك، يُعد قرار مجلس الأمن رقم 833 (1993) وميثاق الحقوق والواجبات الاقتصادية للدول (قرار الجمعية العامة 3281 لعام 1974) من الأطر القانونية المكملة، حيث يحظران الأنشطة التي تُلحق ضرراً اقتصادياً في المناطق المشتركة.
الطريق إلى الأمام: بين الحوار والتحكيم الدولي
إذا رفض البرلمان العراقي إعادة التصديق على الاتفاقية، فسيُصبح من الضروري البحث عن حل دائم قائم على إعادة الانخراط الدبلوماسي، يرتكز على العدالة والمصلحة الاقتصادية المشتركة والاحترام المتبادل للقانونين الدولي والدستوري.
ويمكن أن يشكّل اللجوء إلى محكمة العدل الدولية خياراً واقعياً، مستفيداً من سابقة النزاع البحري بين قطر والبحرين، وهي القضية الوحيدة بين دولتين عربيتين أمام المحكمة التي أظهرت إمكانية تسوية الخلافات الخليجية سلمياً عبر القضاء الدولي. كما يُمكن للمحكمة الدولية لقانون البحار أن تكون منبراً مناسباً بفضل اختصاصها الفني في قضايا الحدود والملاحة البحرية.
إن نزاع خور عبدالله يتجاوز كونه خلافاً فنياً على الحدود البحرية، فهو تعبير عن اختبار أوسع لسيادة القانون والعلاقات الإقليمية.
وبينما قد يبدو المسار القانوني طويلاً ومعقداً، فإن اختيار الحوار والتحكيم الدولي يمكن أن يحوّل هذا الخلاف إلى نموذج دبلوماسي إيجابي، يعزز الثقة المتبادلة ويؤكد التزام العراق والكويت بالنظام القانوني الدولي بدل الانزلاق نحو مزيد من التوتر.
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التيليكرام