من شبكات التواصل الاجتماعي المتنوعة إلى صفحات بعض مشاهير إنستغرام في الخارج، حين تنظر إليها تجدها مليئة بالإعلانات والدعايات لمواقع القمار والمراهنات التي تغريك بوعد الوصول إلى مال أكثر فتخدعك.
سامان، البالغ من العمر 27 عاماً، واحد من هؤلاء المتضررين، وكان موظفاً في شركة خاصة بطهران. قبل عدة أشهر، صادف إعلاناً لموقع توقع مباريات كرة القدم في إحدى مجموعات تلغرام. في البداية أودع مئتي ألف تومان من باب التسلية، لكن عندما ربح للمرة الأولى ثمانمئة ألف تومان تضاعف حماسه. إلا أنه بعد فترة، وفي أقل من ستة أشهر، خسر ما يقارب ثلاثين مليون تومان من مدخراته في هذه المواقع. وهو الآن لا يقتصر أمره على الديون فحسب، بل أصبح يعاني أيضاً من قلق دائم واضطراب نفسي. سامان واحد من مئات آلاف الإيرانيين الذين انجروا إلى عالم القمار الإلكتروني الصاخب.
والحقيقة أن وراء هذه المواقع سراباً من الوعود، وبرغم التحذيرات المستمرة ما يزال هناك كثيرون يقعون في شباك هذه الشعارات المضللة والصور الخادعة.
ورغم أنه لا توجد إحصاءات موثقة عن حجم التداول المالي لمواقع المراهنات، إلا أن الأرقام المنشورة من قبل اللجنة العليا لتطوير إنتاج المحتوى في الفضاء الافتراضي في البلاد تشير إلى أن “أكثر من 20 تريليون تومان من العملة الصعبة” (200 مليون دولار) تُهرّب سنوياً إلى الخارج بسبب انتشار ظاهرة القمار.
وكما كتب “شهروند أونلاين” في تقرير شتاء العام الماضي، فإنه على الرغم من حجب العديد من بوابات القمار الإلكتروني أو المراهنات، أو كشف وتوقيف عصابات متعددة من قبل شرطة الفضاء الافتراضي، لا يوجد رقم دقيق لحجم التداول الحقيقي للقمار الإلكتروني عبر الإنترنت، لأن هذا النوع من المواقع – مثل جميع الجرائم المنظمة الأخرى – يجري بشكل سري بالكامل، ويعتمد على شبكات مافيا كبيرة داخل البلاد وخارجها.
وبحسب تقرير “اقتصاد 24” الإيراني، فإن الأخبار المتداولة تشير إلى أرقام مختلفة تتراوح بين خمسة آلاف مليار إلى تسعة آلاف مليار تومان كحجم تداول مالي للقمار والمراهنات عبر المواقع الإيرانية. وبعض التقديرات تذهب أبعد من ذلك لتتحدث عن خروج مليارات الدولارات سنوياً من العملة الصعبة عبر هذه المواقع، تماماً كما ورد في تقرير اللجنة العليا لتطوير إنتاج المحتوى في الفضاء الافتراضي حول خروج “أكثر من 20 همت من العملة الصعبة سنوياً”.
تاريخ مواقع القمار في إيران
أما في إيران، فمع انتشار الإنترنت السريع وشبكات التواصل الاجتماعي منذ أواخر العقد الأول من القرن الخامس عشر الهجري الشمسي (أواخر العقد الأول من الألفية الثانية الميلادية)، بدأت أولى مواقع توقع المباريات والقمار نشاطها الجدي.
وبحسب “اقتصاد 24″، فإن هذه المواقع كانت في البداية تركز على توقع مباريات كرة القدم الأوروبية والدوري الإيراني الممتاز، ثم أضيفت إليها تدريجياً الكازينوهات الافتراضية (البوكر، الروليت، ألعاب الحظ).
وفي الوقت ذاته، ومع صعود هذه الظاهرة، أدى ظهور بوابات الدفع المصرفي الداخلي وتأجير الحسابات البنكية لمديري المواقع إلى تسهيل عمليات غسل الأموال وتحويلها. لكن كثيراً من هذه المواقع تدار من تركيا وأرمينيا وجورجيا، فيما تعمل فرقها التنفيذية والتسويقية داخل إيران.
أبو الحسن فيروزآبادي، الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للفضاء الافتراضي، صرّح مؤخراً في حوار صريح بأن حجم التداول المالي لمواقع القمار في إيران خلال السنوات الماضية بلغ نحو مليار دولار سنوياً.
وأضاف أن هناك مئات الآلاف من المستخدمين المحترفين الذين كانوا منخرطين في هذه المواقع بشكل إدماني. وأكد أيضاً أن التعرف على هذه المواقع من الناحية التقنية ليس أمراً صعباً، بل متاح بسهولة عبر الأدوات الموجودة في الشبكة، لكن يبقى السؤال الجوهري: لماذا مع وجود هذه الإمكانية لم يُوقف هذا الحجم الضخم من التدفقات المالية؟ هذه التصريحات تتطابق مع تقارير عديدة من شرطة الفضاء الافتراضي ووسائل الإعلام المحلية.
ورغم غياب أرقام رسمية دقيقة، إلا أن التقديرات تتراوح بين 5 آلاف إلى 20 ألف مليار تومان من التداول السنوي، بل تشير بعض المصادر إلى خروج عدة مليارات من الدولارات من البلاد.
النماذج المالية وقنوات الدفع في القمار الإلكتروني بإيران
النماذج التي تعتمد عليها هذه المواقع متنوعة ولافتة، منها:
نماذج مواقع المراهنات والقمار
تنقسم هذه المواقع إلى أنماط أساسية:
مواقع التوقعات الرياضية: الأكثر شعبية، تركز على كرة القدم والرياضات.
الكازينو الإلكتروني: ألعاب الحظ مثل البوكر، الروليت، البلاك جاك، والسلوت. غالباً ما تُتلاعب الخوارزميات لتكون الأرباح لصالح الموقع.
المواقع المزدوجة: تجمع بين التوقعات الرياضية والكازينو، وتسيطر على حصة كبيرة من السوق الإيراني.
الكازينوهات السرية الواقعية: هناك تقارير عن نشاط كازينوهات فعلية، لكنها سرية في المدن الكبرى، وغالباً داخل فيلات أو بيوت خاصة.
الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية
حجم التداول المالي لهذه المواقع يصعب تحديده بسبب طبيعتها السرية، لكنه يُقدَّر بين 5 آلاف مليار إلى 100 ألف مليار تومان سنوياً. حتى أقل التقديرات تكشف أرقاماً مهولة. ومن عواقبها خروج مليارات الدولارات من العملة الصعبة عبر العملات الرقمية وشراء الدولار من السوق غير الرسمي.
القمار الإلكتروني أصبح أيضاً أداة لغسل الأموال الناتجة عن أنشطة غير قانونية كالمخدرات والرشوة.
أما الأضرار الاجتماعية فتشمل الإدمان على القمار، تراكم الديون العائلية، ارتفاع معدلات الجريمة، بل وحتى الانتحار.
التجارب العالمية في مواجهة القمار الإلكتروني
بريطانيا: القمار الإلكتروني قانوني، لكن يخضع لتنظيم صارم، مع ضرائب على الشركات وحظر على من هم دون 18 عاماً.
أمريكا: بعد حظر طويل، أُجيز تدريجياً في بعض الولايات منذ 2018، تحت رقابة مشددة.
الصين: القمار الإلكتروني محظور تماماً، وتتعامل الدولة بقوة مع هذه المواقع، لكن السوق السوداء ما يزال ضخماً.
أوروبا: دول مثل مالطا وجبل طارق أصبحت مراكز رئيسية لاستضافة شركات القمار، لكنها تعمل ضمن قوانين مالية صارمة.
التجارب العالمية تبيّن أن الخيارين الفعليين هما: إما تنظيم السوق وتقنينه بشفافية (كما في أوروبا) أو المنع التام مع رقابة صارمة (كما في الصين). أما النموذج الإيراني الحالي – المنع القانوني على الورق مع نشاط فعلي مزدهر – فهو يصب في مصلحة مافيات القمار على حساب المجتمع والاقتصاد.
دلالات هذا التداول المالي الهائل
حين يتحدث فيروزآبادي عن مليار دولار كحجم سنوي، فالأمر يعادل ميزانية عدة وزارات في إيران، ويتجاوز بأضعاف مضاعفة إيرادات صناعة السينما الإيرانية بأكملها.
ومع أزمة العملة الأجنبية، فإن خروج مليارات الدولارات يفاقم الضغط على الاقتصاد، كما أن غياب الرقابة المصرفية يثير تساؤلات جدية عن الفساد البنيوي.
القمار الإلكتروني في إيران تحوّل إلى صناعة سرية لكنها قوية. من جهة، ملايين المستخدمين يطمعون في الثراء السريع، ومن جهة أخرى عصابات منظّمة تحرّك مليارات التومانات. التجربة الدولية تثبت أنه لا مجال لحلول وسط: إما تنظيم كامل أو حظر كامل. أما الوضع الحالي – المنع القانوني مع ازدهار فعلي – فهو في صالح المافيا وحدها ويُكبّد المجتمع والاقتصاد الإيراني أفدح الخسائر.
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التيليكرام