تمارس السياسة الاقتصادية الكلية صياغة أهدافها في العديد من المفاصل، بعيدا عن استيعاب التأثير العميق لعلاقة الثقافة بالاقتصاد. اذ تشكلان في العراق مزيجا يصعب فصل مكوناته بعضها عن البعض الآخر، ليس لأنها ظاهرة اجتماعية فحسب، بل لان المزيج المذكور مليءبالتناقضات التي تعمق من تشوه اصل العلاقة بين الاثنين. فالثقافة في هذا المضمار ليست مجرد قوة غير مباشرة تؤثر في النشاط الاقتصادي، بل هي قوة ديناميكية تمارس إعادة تشكيل جوهر الاقتصاد، في حلقة سببية معقدة من التأثير المتبادل. فاذا ما نظرنا الى عملية انتاج الثقافة للاقتصاد فإننا سنلاحظ ان جزءا كبيرا من المجتمع لا يزال يحمل وبقوة رواسب النظام العشائري وتقاليده المعروفة، هنا يتبلور للعلاقات الاجتماعية دور اقتصادي حقيقي، فنرى ان ظاهرة المحسوبية والمنسوبية تعدت حدودهاكظاهرة اجتماعية، الى كونها نظاما فعالا لتخصيص الموارد وتوزيع الثروة بشكل رسمي او غير رسمي، فشبكات العلاقات العشائرية تبني ما يشبه سوقا تتداول فيه المنافع الاقتصادية بمعايير تختلف كليا عن معايير وشروط السوق. هذا النظام الموازي يخلق اقتصاداً ظليا داخل الاقتصاد الرسمي، ينال من مؤسسات الدولة ويعيق تكوين سوق قائم على الكفاءة الاقتصادية والتخصيص السوقي الكفوء للموارد الاقتصادية ويعمق من الفجوة بين توازني السوق الفعلي والمستهدف. وفي السياق ذاته يتبلور دورثقافة النمط الاستهلاكي لسلوكيات الافراد في تعزيز دور المظاهر الثقافية كمحركات اقتصاديةً ذات طابع خاص. اذ تؤثر ثقافة الاستهلاك المظهري في توجيه النشاط الاقتصادي المجتمعي بنسبة كبيرة من الأموال نحو الاستهلاك بدلاً من الادخار والاستثمار المنتج. تلك الأموال التي تُنفق في المناسبات الاجتماعية فنراها لا تخرج منقطاع الخدمات فقط، بل تعيد إنتاج ثقافة الاستهلاك كأداة للتمايز الطبقي. وحتى في الطبقات المتوسطة والفقيرة، نجد أن الضغط الثقافي نحو المباهاة يجبر الأسر على تبني أنماط استهلاكية تفوق قدراتها المالية، مما يغذي دوامة الدين والاقتراض من جانب ويشوه معدل نمو الميل الحدي للاستهلاك للأفراد باتجاه تعزيز تشوه توازن الاقتصاد خارج شروط السوق.
وبالرجوع الى مناخ الحصار الاقتصادي على العراقفي تسعينيات القرن المنصرم تتضح لنا ديناميكية العلاقة عبر تحولها سببيا من الاقتصاد الى الثقافة، خصوصا مع ارتفاع المستوى العام الأسعار ونمو التضخم الجامح الذي نتج عنه تآكل مستويات الدخل الحقيقي لقيمة الرواتب الحكومية التي كانت تمثل عماد الطبقة الوسطى. لقد كان من بين ابرز تلك التحولات افقار المجتمع مادياً والتضييق عليه في فرص العيش بكرامة واستقرار، هذا الانهيار دفع بأجيال كاملة إلى إعادة تعريف مفاهيم العمل المنتجوالنجاح الاجتماعي خارج المؤسسة الرسمية على الرغم من محدودية المشاركة الاجتماعية لشرائح اجتماعية احتارت بطريقة كسب القوت اليومي داخل قنوات النشاط الاقتصادي، مما خلف ثقافة الهروب والهجرة خارج البلاد،او الانخراط في أنشطة الاقتصاد غير الرسمي وضياع الكثير من فرص التنمية والمبادرة للافراد والمجتمع والمؤسسات على حد سواء.
ولعل ما احدثته صدمة العولمة الاقتصادية من شرخ ثقافي غريب يعد من أوضح الأمثلة على علاقة الاقتصاد بالثقافة، فبينما فتحت الأسواق العراقية على مصراعيها أمام السلع الاستهلاكية من المناشئ الأجنبية المختلفة، نجد أن القيم الإنتاجية المحلية اخذت بالتراجع. فقطاع الزراعة العريق، على سبيل المثال، لم يعد فقط ضحية لسياسات اقتصادية فاشلة، بل أصبح ضحية لتحول ثقافي عميق افقد العمل الزراعي مكانته الاجتماعية، وأضحت للزراعة قيمة اجتماعية مرتبطة بالتخلف والفقر. في المقابل، تزداد الهوة بين ثقافة الاستهلاك المستوردة وثقافة الإنتاج المحلي وتتسبب في تخلف قاعدة الصناعة المحلية، مما خلق مجتمعا يستورد حتى حاجاته الأساسية مقابل تعطيل طاقاته الإنتاجية.
لذا فان من اشد نتائج تناقضات العلاقة الثقافية الاقتصادية إثارة في هذا المفصل، ما يقوم به الاقتصاد الريعي بإعادة انتاج ثقافة الريع الاجتماعي. فاعتماد الدولة شبه الكلي على عائدات النفط يكرس ثقافة تحويل الخدمات العامة الى هبات بدلا من حقوق ، ويرسخ الاعتقاد بأن الثروة تأتي من الريع وليس من الجهد المنظم. هذه العقلية الريعية تتسرب إلى الثقافة المجتمعية، فتضعف قيم المبادرة الفردية والاستثمار طويل الأمد.
العلاقة بين الثقافة والاقتصاد هي علاقة تكوينية بموجبها يصبح تخلف احدهما شرطاً لتخلف الآخر. لذا فان قيام السياسة الاقتصادية الكلية على اصلاح هذه العلاقة بالتأكيد سيخلق شروط الاقتصاد العراقي الخاص، والاقتصاد بدوره يعيد صياغة الثقافة بشكل مستمر. وهذا ما يجعل أي محاولة للإصلاح الاقتصادي دون فهم العمق الثقافي واستيعابه، محكومة بالفشل، كما يجعل أي حديث عن إحياء الثقافة دون معالجة الأوضاع الاقتصادية ضرباً من المثالية. ان العراق بحاجة إلى رؤية تستطيع أن ترى في"الاقتصاد ثقافةً متجسدة وفي الثقافة اقتصاداً كامنا".
ومن خلال فهم وتحليل العلاقة يمكن تطبيق بعض محاور المزج الثقافي الاقتصادي الإيجابي المنتج من طريق الآتي:
1. صياغة سياسات مالية ونقدية تدعم المبادرات الفردية وتعزز من قيم السوق والنمو والادخار والاستثمار، ولاسيما في المناطق التي تشهد ارتفاعا في منسوب المزج غير الصحي للعلاقة ين الثقافة والاقتصاد.
2. إعادة بناء سياسات كلية تستهدف تعزيز الدور الإيجابي للمزيج الثقافي الاقتصادي.
3. تحرير راس المال البشري من القيود الفكرية والاجتماعية التي تعيق الإنتاجية والابتكار.
4. بناء سياسات استثمارية لدعم السوق والمشروعات الصغيرة والمتوسطة لتنمية علاقة الثقافة الاقتصاد بشكل صحي بعيدا عن متناقضاتها.
5. تعديل الثقافة المعيقة عبر التربية والتعليم كتشجيع ريادة الأعمال، وتمكين المرأة.
6. استغلال الاقتصاد في تغيير الثقافة كإنشاء مدن صناعية تجذب العمالة وتغير من تأثير العادات والتقاليد الاجتماعية باتجاه تنمية روح العمل الاقتصادي .
7. بناء قاعدة من التشريعات القانونية الداعمة لتطويق التأثير السلبي للعلاقة على واقع الاقتصاد والثقافة ونطاق عملياتهما. والعمل على متابعة تنفيذها وبلوغ أهدافها.
8. عدم فصل الثقافة عن الاقتصاد من خلال دمج المؤشرات الثقافية في تقييم المشاريع والخطط الاستراتيجية .
9. اعتماد نموذج الاقتصاد التضامني الذي يجمع بين الربح والثقافة الاجتماعية.
ان من الامثلة والتجارب الحية على إنتاجية العلاقة بين الثقافة والاقتصاد والإفادة منها بطرق مختلفة، تجربةالمغرب الذي ربط السياسة السياحية بالهوية الثقافية عبر برنامج مدن الصناعة التقليدية. وماليزيا التي دمجت القيم الإسلامية في المنتجات المالية من طريق الصكوك الإسلامية.والمانيا التي عمقت من الثقافة البيئية مما أدى إلى زيادة الطلب على الطاقة المتجددة فكانت نسبة الكهرباء المولدة من مصادر متجددة إلى 55-60% بسبب التأثير الثقافيالاخضر، مما غير هيكل الاقتصاد والطاقة. بينما نلحظ في السياسات الاقتصادية في العراق انها قد أضاعت الكثير من الفرص الاستثمارية لتنمية الحافز الاقتصادي لدى الفئات النشطة. فالعلاقة الوثيقة بين الثقافة يمكن ان تنتجأصولا اقتصادية، في حين ان الفصل بين الاقتصاد والثقافة يؤدي إلى مقاومة المجتمع للإصلاحات وضياع الفرص التنافسية الفريدة .
لذلك واستنادا الى نتائج تحليل العلاقة موضوع المقالة، نقترح على أصحاب القرار تأسيس مجلس اقتصادي ثقافي مشترك بين وزارة الثقافة ووزارة المالية والبنك المركزي العراقي لتصميم سياسات متكاملة لتوظيف العلاقة بين الثقافة والاقتصاد خارج تأثير متناقضاتها منهما عبر النهوض بسياسات كلية تعمل على بناء قاعدة اجتماعية تدفع باتجاه تحفيز وتنمية شروط السوق وتطويق الثقافة الريعية .
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التيليكرام