الاقتصاد نيوز - بغداد
في خطوة وُصفت بالجريئة وغير المسبوقة، تمضي حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني باتجاه إعادة رسم الخارطة المالية في العراق، عبر فتح واحد من أكثر الملفات حساسية وتعقيدًا: ملف الرواتب والامتيازات العليا في الدولة.
وتطرح الحكومة رؤية إصلاحية تهدف إلى ترشيق الإنفاق وضبط النفقات التشغيلية، مع التركيز على إنهاء الامتيازات الخاصة للرئاسات والدرجات العليا، في محاولة لتحقيق عدالة مالية، وحماية الاستقرار الاجتماعي، وتأمين استدامة الموازنة العامة في ظل تحديات داخلية وتقلبات اقتصادية عالمية متسارعة.
وترأس رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، الاثنين، اجتماعًا استثنائيًا للمجلس الوزاري للاقتصاد، جرى خلاله اتخاذ عدد من القرارات المهمة الهادفة إلى ترشيد النفقات وتعظيم الموارد المالية للدولة.
وفيما يخص إجراءات تقليص الإنفاق، ناقش المجلس مخصصات ورواتب الرئاسات الثلاث، ووجّه رئيس مجلس الوزراء بإجراء مراجعة عاجلة لهذا الملف، والعمل على مساواة رواتب ومخصصات جميع منتسبي رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب مع منتسبي رئاسة مجلس الوزراء، في خطوة تهدف إلى تحقيق العدالة الوظيفية وتقليص الفوارق المالية.
كما وجّه السوداني اللجنة المختصة في وزارة التخطيط بإجراء التحديث اللازم للتقرير الخاص بـ توحيد سلم الرواتب لعموم موظفي الدولة، والأخذ بالتوصيات المقدمة بهذا الشأن.
وقرر المجلس تخفيض تخصيصات الإيفاد لموظفي الدولة بنسبة 90%، ومنعها إلا للضرورة القصوى وبموافقة الوزير المختص، إلى جانب تخفيض نسب الإشراف والمراقبة للمشاريع الجديدة.
وفي إطار إصلاح منظومة الدعم الاجتماعي، كلّف المجلس وزير التجارة بإعادة النظر بالبطاقة التموينية، وإصلاح آلياتها بما يضمن توجيهها إلى مستحقيها الفعليين من الطبقات الهشة.
أما في ما يتعلق بـ إجراءات تعظيم الإيرادات، فقد وجّه رئيس مجلس الوزراء اللجنة الوزارية المشكلة بموجب قرار مجلس الوزراء رقم (550) بإعادة النظر باحتساب الإيرادات غير النفطية في إقليم كردستان العراق، التي تُودع حاليًا بمبلغ مقطوع في حساب وزارة المالية، وبالتنسيق مع حكومة الإقليم.
كما شدد المجلس على دعم وتعزيز العمل بنظام البيان المسبق في هيئة الكمارك بالتنسيق مع البنك المركزي العراقي، وتعزيز جباية الكهرباء، وإعادة النظر في التعرفة الحالية، فضلًا عن اعتماد الأتمتة والدفع الإلكتروني حصريًا في جميع عمليات الجباية، ولاسيما في قطاع الكهرباء، وأمانة بغداد، والبلديات في عموم البلاد.
خارطة طريق واضحة للإصلاح المالي
وبهذا الصدد، أكد مستشار رئيس الوزراء للشؤون المالية مظهر محمد صالح، أن اجتماع المجلس الوزاري للاقتصاد مع رئيس الوزراء محمد شياع السوداني شكّل محطة استراتيجية لوضع خارطة طريق واضحة للإصلاح المالي، ومواجهة تحديات تقلبات أسعار النفط، وتقليل الاعتماد على الإيرادات النفطية.
وقال صالح في تصريح خاص لـ"الاقتصاد نيوز"، إن الاجتماع خُصص لاستعراض واقع السياسة المالية في العراق، ومفهوم التعزيز المالي بوصفه أداة لمعالجة العجز وتقليل فجوة الديون، ولاسيما الديون الداخلية، عبر إعادة هندسة التكاليف وضبط النفقات العامة، دون اللجوء إلى إجراءات صادمة أو جراحات اقتصادية قاسية، وبما يحافظ على الاستقرار الاجتماعي.
وأضاف أن الاقتصاد العراقي لا يمكن أن يبقى مرتهناً لعوائد برميل النفط في ظل التقلبات الجيوسياسية العالمية، مبيناً أن النفقات التشغيلية تشكل ما يقارب 70% من إجمالي الإنفاق العام، الأمر الذي يستدعي إعادة النظر بها وفق أولويات واضحة ومدروسة.
ارقام صادمة
وينفق العراق نحو 100 تريليون دينار سنويًا على رواتب الموظفين والمتقاعدين، تذهب 40 تريليون منها على الأقل للمسؤولين الكبار.
وبلغت موازنة 2024، أكثر من 144 تريليون دينار، بعجز يتجاوز 63 تريليون دينار.
ويُوجد في العراق نحو 6 آلاف موظف من أصل نحو 4 ملايين، يُعرفون بـ"الدرجات الخاصة"، تستحوذ هذه المجموعة على حصة الأسد من الرواتب. حاول البرلمان والحكومات السابقة "ترشيق الإنفاق" ووضع "سُلَّم رواتب"، لكنه فشل أمام اعتراض أصحاب "الرواتب العليا".
ويواجه العراق مخاطر عدّة بسبب اعتماد اقتصاده على "النفط"، وهي سلعة تتقاذفها الأزمات السياسية والأمنية في العالم.
ويُقدّر عدد الدرجات الوظيفية لمنصبي "وكيل وزير" و"مدير عام" بأكثر من 500 درجة (أ) ونحو 5030 درجة (ب)، وهو عدد يفوق ما موجود في بريطانيا وأميركا، بحسب خبراء.
وينقسم الموظفون في العراق إلى 10 درجات وظيفية، فضلًا عن الدرجة (أ) الخاصة، وهم في مناصب: وكيل وزير أو سكرتير أو مستشار في الرئاسات الثلاث، وصولًا إلى درجة السفير.
أما الدرجة العليا (ب) فتشمل وظائف المدير العام والمهمات الإشرافية العليا، ومن ثم تُقسم الدرجات الوظيفية من التسلسل العاشر نزولًا إلى الدرجة الأولى.
إضافة إلى ذلك، هناك أكثر من 20 وزيرًا، وأكثر من 300 نائب أو وكيل وزير، مع الرؤساء الثلاثة (الجمهورية - البرلمان - الوزراء)، ليكون المجموع أكثر من 6 آلاف درجة تستنزف قرابة 40% من إجمالي رواتب الدولة، تُقسّم على هيئة رواتب ومخصصات وحمايات أمنية وإيفادات سفر، وفقًا لخبراء.
وعاد صالح لإكمال حديثه، مشيراً إلى أن "مبدأ الإصلاح يبدأ من داخل مؤسسات الدولة، من خلال مراجعة هيكل الرواتب والامتيازات، ولاسيما في الرئاسات العليا، باعتباره رسالة وطنية واجتماعية تؤكد التزام الدولة بالعدالة، ومراعاة أوضاع الطبقات الوسطى والفقير".
وأوضح أن "الاجتماع تطرق إلى وجود ثغرات واضحة في الإنفاق العام وسوء تقدير في بعض أبواب الصرف، إضافة إلى دعم غير مبرر يشكل عبئاً مستمراً على الموازنة، ما يتطلب اعتماد مبدأ استعراض النفقات المتبع عالمياً، عبر إعادة تقييم بنود الإنفاق، وحذف أو تقليص الفقرات التي تؤدي إلى توسع غير مبرر في النفقات".
وبيّن أن القرارات التي نوقشت صُنفت بين إجراءات قابلة للتنفيذ الفوري، وأخرى تحتاج إلى دراسة وتطبيق تدريجي، انسجاماً مع نهج الدولة القائم على الإصلاح المتدرج وتجنب الصدمات الاقتصادية المباشرة.
وتابع صالح أن هذا التوجه يأتي ضمن الاستعدادات المبكرة لإعادة هندسة موازنة عام 2026، في ظل توقعات بانخفاض أسعار النفط إلى مستويات قد تتراوح بين 50 و60 دولاراً للبرميل، مع التأكيد على ضمان تأمين الرواتب والأجور والمعاشات بوصفها أولوية قصوى، دون الإخلال بمتطلبات التنمية والخدمات.
وأكد أن الاقتصاد العراقي يمتلك تدفقات نقدية جيدة، لكنه يحتاج إلى انضباط مالي أعلى وإدارة أكثر كفاءة للموارد، بما يضمن أن يُنفق كل دينار في مساره الصحيح، ويفتح الطريق نحو اقتصاد أكثر استقراراً واستدامة على المدى المتوسط والبعيد.
معطيات مالية دقيقة
إلى ذلك، رأى الخبير في الشأن المالي عبد الرحمن الشيخلي، إن القرارات الأخيرة جاءت استجابةً لمعطيات مالية دقيقة تهدف إلى تعزيز الاستقرار المالي للدولة، في ظل تسجيل تراجع نسبي في الإيرادات العامة مقابل ارتفاع مستويات الإنفاق.
وأوضح أن الإيرادات العامة في النصف الأول من عام 2025 بلغت نحو 62 تريليون دينار عراقي، بانخفاض يقارب 6% مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، مع تراجع الإيرادات النفطية بنسبة 3.4%، وغير النفطية بنسبة 14%، ما استدعى مراجعة السياسات المالية بما ينسجم مع هذه المتغيرات.
وبيّن الشيخلي أن الاقتصاد العراقي ما يزال يعتمد بدرجة كبيرة على النفط كمصدر رئيس للإيرادات، إذ بلغت إيرادات النفط نحو 56.7 تريليون دينار، أي ما يعادل 91% من إجمالي الإيرادات، مقابل نحو 6.2 تريليون دينار فقط من الإيرادات غير النفطية خلال النصف الأول من العام.
وأكد أن هذه المؤشرات تسلط الضوء على أهمية تنويع مصادر الدخل وتعزيز مرونة الموازنة العامة في مواجهة تقلبات أسعار النفط العالمية.
وأشار الخبير المالي إلى أن الإجراءات المتخذة تعكس توجهاً إصلاحياً لمعالجة عدد من التحديات، من بينها ارتفاع الإنفاق الجاري، ولا سيما الرواتب والأجور التي تستحوذ على حصة كبيرة من النفقات العامة، إضافة إلى محدودية الإنفاق الاستثماري.
ولفت إلى أن إعادة التوازن بين الإنفاق التشغيلي والاستثماري تمثل خطوة مهمة نحو دعم النمو الاقتصادي المستدام وتعزيز كفاءة إدارة الموارد.
وأوضح الشيخلي أن لهذه الإجراءات آثاراً إيجابية محتملة، أبرزها تحسين إدارة المال العام وتقليص العجز في الموازنة من خلال ترشيد النفقات التشغيلية غير الضرورية، وتوجيه الدعم إلى مستحقيه الفعليين، خاصة مع تطوير نظام البطاقة التموينية ودعم الفئات الأكثر حاجة.
كما أكد أن تعزيز جباية الكهرباء وتوسيع الاعتماد على أنظمة الدفع الإلكترونية سيسهمان في زيادة الإيرادات المحلية ورفع كفاءة التحصيل.
وشدد الشيخلي على أهمية تنفيذ هذه الخطوات بحكمة وتوازن، بما يضمن الحفاظ على مستوى الخدمات العامة واستمرار المشاريع الاستثمارية، مع العمل بالتوازي على تنمية الإيرادات غير النفطية وتشجيع الاستثمار في القطاعات الإنتاجية. وأكد أن نجاح هذه الإجراءات يتطلب رقابة فعالة وتعاوناً وثيقاً بين مختلف مؤسسات الدولة لتحقيق الأهداف المرجوة دون تحميل المواطنين أعباء إضافية.
وختم الشيخلي حديثه بالتأكيد على أن المضي بهذه الإصلاحات المالية بات ضرورة ملحّة لتعزيز متانة المالية العامة وتقليص فجوة العجز، مشيراً إلى أن هذه المعالجات تمثل فرصة حقيقية لوضع أسس أكثر استقراراً واستدامة للموازنة العامة، وتقليل تأثرها بتقلبات أسعار النفط والتغيرات في الإنتاج والتصدير.
ولم تُقدِم أي حكومة سابقة على تعديل رواتب الرئاسات الثلاث، ليس لغياب القناعة بضرورة ذلك، بل بسبب التعقيدات السياسية والحساسية العالية التي تحيط بهذا الملف. إذ كانت مثل هذه المحاولات تُواجَه عادةً برفض غير معلن وضغوط سياسية تمارس في الكواليس من قِبل قوى نافذة، ما
جعل أي تحرك في هذا الاتجاه محفوفاً بالمخاطر السياسية وقد يفتح باباً للصراع بين الكتل والأطراف المؤثرة.
كما أن هذا الملف كان يُنظر إليه على أنه “خط أحمر” يصعب الاقتراب منه، خشية استغلاله سياسياً أو تفسيره على أنه استهداف لموقع أو مؤسسة بعينها، الأمر الذي دفع الحكومات المتعاقبة إلى تجنب الخوض فيه، والاكتفاء بالحديث عن الإصلاح دون ترجمة ذلك إلى قرارات عملية.
إلا أن طرح هذا الموضوع اليوم يعكس تحولاً في الخطاب الإصلاحي، ومحاولة لكسر الجمود في ملفات ظلت عالقة لسنوات طويلة، وإيصال رسالة مفادها أن الإصلاح المالي يجب أن يبدأ من القمة قبل القاعدة، وبما يعزز الثقة العامة ويؤكد مبدأ العدالة في توزيع الأعباء، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية الراهنة.
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التيليكرام