الاقتصاد نيوز - بغداد
مضت خمسون سنة على واحدة من أغرب الحوادث في تاريخ الوظيفة العامة العراقية، حادثة طريفة وقاسية في آنٍ واحد، بطلها العم “أبو عمار”، الرجل الطيب الذي طالما اشتكى بصبر من الإهمال الوظيفي المزمن.
ففي صباح أحد الأيام، كان ينتظر كغيره من الموظفين، عودة المدير العام من مؤتمر “الأونكتاد” في جنيف، تلك المدينة السويسرية التي أصبحت عنوانًا للحسد بين موظفي الدائرة، لما تمثله من ترف إداري وسفر متكرر للمسؤول الكبير.
كان الجميع يترقب لحظة وصوله، لا لأسباب تتعلق بالسياسات أو التطوير المؤسسي، بل فقط للحصول على توقيع يخص إجازة أو سلفة مالية، أو تأييد يتيح لموظف شاب تقاضي سلفة مصرفية لشراء جهاز تبريد من “الشركة العراقية الأفريقية” آنذاك.
وفي ذلك الصباح ، جلس العم أبو عمار مهمومًا، يهمس بتذمر عن مصير طلبه الملقى على طاولة المدير منذ أسابيع. لكن فجأة، وبدون مقدمات، قام من مكانه، وجرّ كرسيه المهترئ خارج غرفة المدير العام، صارخًا في لحظة غضب، وسط ذهول الموظفين، في مشهد بدا أقرب إلى اشتباك داخل غابة فيتنام الملتهبة في تلك السنوات.
تجمعنا حوله، بينما تعالت الأصوات وارتفعت الهمهمات.
المدير العام، المرهق من السفر، انفجر غضبًا، واتّهم موظفيه بسوء الانضباط، متوعدًا بالعزل والطرد. ثم ختم نوبته الانفعالية بعبارته الشهيرة:
“اخرسوا أيها الجبناء، وليَعُد كلّ إلى مكانه!”
عُدنا، فعلاً، مثل سلاسل النمل إلى جحورها. ولم يبقَ سوى الكرسي المكسور، والعم أبو عمار شبه مغمى عليه. لم نعرف حينها هل حدث اشتباك فعلي أم أنها مجرد نوبة غضب عبثية.
وبعد أن ساد الهدوء… نسي أحدنا الحديث عن زفافه، وترك آخر ملف السلفة جانبًا، أما المدير العام فقد تلاشت من ذاكرتنا صورته الجنيفية الأنيقة ،
لكن وحده أبو عمار ظل حاضرًا، رمزًا لذكرى لا تُنسى.
اقتربنا منه حين أفاق، وسألناه:
“ما الذي جرى؟ ما أصل الحكاية؟”
ابتسم بتلك الطيبة التي عُرف بها، وقال بهدوء:
“قدّمت طلبًا بسيطًا لإحالة الكرسي المعطوب إلى شعبة الصيانة. المدير العام، المرهق من السفر، كتب على هامش الطلب:
(الأوليات، رجاءً).
فأحضرت الكرسي إلى غرفته وقلت له:
‘سعادتك… هذه هي الأوليات!’”
انفجر المكتب ضاحكًا. المدير العام رمى الكرسي خارجًا وهو يصرخ:
“اذهب أنت وكرسيك إلى الجحيم، أيها المجنون!”
ومنذ ذلك اليوم، تحوّل “الكرسي المكسور” إلى رمز بيروقراطي خالد، تتناقله الأجيال في أدراج دوائرنا، باعتباره واحدة من أشهر حوادث العبث الإداري في تاريخ الوظيفة العامة العراقية.
وهكذا ظل “الكرسي المكسور”، لا كأثاثٍ مُعطّل، بل كشاهدٍ صامتٍ على علاقة مضطربة بين المدير، والورق، والكرامة الإنسانية في مؤسساتٍ تُديرها التعليمات البيروقراطية لا البشر.
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التيليكرام