مع إعلان وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل، أصبحت منطقة الشرق الأوسط أمام فرصة لمراجعة موقعها في النظام الاقتصادي العالمي، وترميم روابطها الإقليمية والدولية، والاستفادة من أدوات الدبلوماسية لدفع عجلة التنمية الاقتصادية وتعزيز الأمن المستدام. وبحسب خبراء، فإن أحد العوامل الرئيسة التي زادت من الضغوط على إيران خلال السنوات الماضية تمثّل في عزلة البلاد الاقتصادية وتراجع حصتها في التجارة والاستثمار الدوليين.
تُظهر الدراسات أن العقوبات على إيران لم تضر فقط بمستوى رفاهية المواطنين، بل أدّت فعلياً إلى فصل إيران عن نظام دولي يقوم على «المصالح الاقتصادية المتبادلة»، وهو عامل كان يمكن أن يشكّل حاجزاً أمام التصعيدات العسكرية. وتشير المؤشرات إلى أن نسبة الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI) إلى الناتج المحلي الإجمالي – بوصفها مؤشراً يعكس مدى ارتباط المصالح الاقتصادية العالمية باقتصاد الدولة – شهدت تراجعاً ملحوظاً في السنوات الأخيرة؛ إذ انخفضت من 2.71% عام 2002 إلى 0.35% في عام 2023. كذلك، تراجعت حصة إيران من الاقتصاد العالمي بناءً على معيار تعادل القدرة الشرائية من 1.5% في عام 2002 إلى 0.8% في عام 2023. وهذا يدل على أنه رغم غياب النمو الاقتصادي الملموس خلال العقدين الماضيين، فإن بنية الاقتصاد الإيراني قد تغيّرت أيضاً، إذ بات الاستثمار الأجنبي يشكّل جزءاً أصغر من الاقتصاد الوطني. وقد ترافق هذا التراجع مع انخفاض نسبة اقتصاد إيران مقارنة بالاقتصاد العالمي، ما أسهم في خلق بيئة مؤاتية للهجمات الخارجية والمساس بالأمن العسكري للبلاد.
فرصة لالتقاط الأنفاس
مع انحسار التوترات العسكرية، يمكن للحكومة الإيرانية أن تبادر بتهيئة بيئة أكثر استقراراً، وتنفيذ إصلاحات متأخرة لكنها ضرورية في مجالات مثل النظام المصرفي، والضرائب، والدعم الحكومي، وآليات تسعير السلع، دون أن ترتبط هذه الإصلاحات بتكلفة اجتماعية ونفسية ناجمة عن أزمات سياسية.
وبالنسبة للمؤسسات الاقتصادية، لا سيما القطاع الخاص، فإن غياب التهديد العسكري المباشر يعني آفاقاً أكثر وضوحاً للتخطيط في مجالات الإنتاج والتصدير وتأمين المواد الأولية وجذب الاستثمارات. وفي هذه الظروف، ينبغي على الحكومة أن تؤدي دوراً فاعلاً في تسهيل وصول الشركات إلى الموارد المالية، وتثبيت سوق العملة، وتقليص البيروقراطية. كما أن سياسات مثل تقليص تكاليف المعاملات، ورقمنة إجراءات الترخيص، وتقديم دعم موجّه للصناعات الصغيرة والمتوسطة، قد تسهم في تعزيز الإنتاجية وإحياء القدرات التصنيعية في البلاد. وتحتاج الشركات اليوم إلى استراحة لالتقاط الأنفاس؛ ويمكن لوقف إطلاق النار أن يكون بمثابة “فترة ذهبية” يستعيد فيها القطاع الخاص الأمل بالمستقبل.
أهمية الدبلوماسية الاقتصادية
الخطوة الأولى في هذا المسار تتمثل في استعادة الثقة العالمية بإيران كشريك اقتصادي مستقر وقابل للتنبؤ بسلوكه. وهذه الاستعادة لا تتطلب فقط تغييراً في الخطاب السياسي، بل أيضاً إجراءات عملية قابلة للقياس في المجال الاقتصادي.
ويجب تعريف الدبلوماسية الاقتصادية على أنها العمود الفقري للسياسة الخارجية الإيرانية. ويعني ذلك تعزيز الأقسام الاقتصادية في وزارة الخارجية، وإيفاد ملحقين تجاريين أكفاء إلى الدول المستهدفة، وإبرام اتفاقيات تجارة تفضيلية مع الدول الإقليمية وغيرها، وتشكيل لجان اقتصادية مشتركة نشطة مع الجيران والقوى الاقتصادية العالمية. وفي هذا الإطار، تكتسب مسألة قبول عضوية إيران في اتفاقية CFT أهمية كبيرة. كما ينبغي تعزيز الحضور الإيراني في المنظمات والتكتلات الاقتصادية الإقليمية مثل “إيكو”، و”منظمة شنغهاي”، و”بريكس”، والمشاركة بفعالية في صياغة السياسات الاقتصادية ضمن هذه المحافل. ومن ناحية أخرى، فإن استثمار موقع إيران في الممرات التجارية، من خلال إحياء ممرات مثل الشمال-الجنوب والشرق-الغرب، يمكن أن يفضي إلى زيادة اعتماد دول المنطقة على إيران في سلاسل الإمداد الإقليمية.
وفي مجال الطاقة، على إيران أن تنتهج سياسة فاعلة لتوقيع عقود طويلة الأمد لتصدير الغاز والنفط إلى الدول الآسيوية والأوروبية. ففي عالم اليوم، لم تعد الطاقة مجرد مصدر دخل، بل باتت أداة استراتيجية لإيجاد الاعتمادية المتبادلة وتعزيز الأمن القومي. وإذا استطاعت إيران إنشاء البنى التحتية اللازمة لتصدير الغاز الطبيعي المسال (LNG) والدخول في أسواق الطاقة الجديدة، فإن هذه العلاقة الاقتصادية يمكن أن تصبح أداة قوية للردع الجيوسياسي. كما أن تطوير الصناعات التحويلية والبتروكيماوية قد يؤدي إلى خلق قيمة مضافة أعلى، ويسهّل دخول الشركات الدولية إلى السوق الإيراني.
وتحتاج إيران أيضاً إلى اعتماد استراتيجية واضحة في مجال الابتكار والتكنولوجيا تهدف إلى جذب الشركات الأجنبية القائمة على المعرفة ونقل التكنولوجيا. ويمكن أن تسهم إقامة مناطق اقتصادية خاصة ذات قوانين تسهيلية للشركات التكنولوجية، واستقطاب الكفاءات الإيرانية المقيمة في الخارج، ودعم الشركات الناشئة الدولية داخل إيران، في تنويع مصادر الاقتصاد وتقليل اعتماده على النفط. ففي العالم ما بعد الصناعي، يعتمد التنافس الاقتصادي على رأس المال البشري، والابتكار، والوصول إلى التكنولوجيا الحديثة.
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التيليكرام