أزمة بنوك التمويل العالمية بين النظام التقليدي واطروحة التمويل الاسلامي

            د. هيثم حميد مطلك المنصور

في ظل استمرارنشاط البنوك الدولية طبقا لقواعد نظام التمويل التقليدية، يواجه العالم منذ آذار 2023 ازمات مصرفية كبرى ، ولاسيما بعد الاعلان عن إفلاس بنك وادي السيليكون وما تلاه من انهيار للبنوك الاربعة الأخرى في الولايات المتحدة، وانتقال الازمة إلى أوروبا في بنك يعد الأكبر من بين البنوك الألمانية وهو (البنك الالماني ) وما حدث من مشاكل عميقة لادارة البنك السويسري (كريدي سويس) مما اثار مؤشرات خطيرة لحدوث الذعر المالي في اروقة المصارف والأسواق المالية، وولد مخاوفا حقيقية على استقرار الاقتصاد العالمي الذي يعاني من التضخم وبطء النمو.

لقد رشح عن الازمات الاخيرة ، إتجاه فني  يدعو الى التشكيك في قدرة عمليات النظام المالي المصرفي  وأدواته المالية على الاستمرار من دون ازمات عميقة وخطيرة قد تعصف بعموم هيكل النظام الاقتصادي العالمي، ويدعو الى اعادة النظر بطريقة عمل البنوك في ظل قواعد التمويل والتوازن المالي والتي يتضح مع مرور الوقت انها تعاني من مشاكل مصرفية حقيقية ابرزها المشاكل التي تتعلق بنظام الودائع و القروض، كونه نظام  يعتمد ميكانيكية الاشتقاق الودائعي طبقا لسعرالفائدة اداة للتمويل والاقراض .

 ان المعالجات المالية التقليدية من قبل إدارات بنوك الازمة فضلا عن تدخل المؤسسات والحكومات على الرغم من جديتها الا انها لم تمنح تلك البنوك المرونة العالية للتكيف مع متغيرات الاقتصاد المحلي أو العالمي، لذا كثرت الدعوات إلى استخدام ادوات وميكانيكيات منهجية غير تقليدية، كان من بينها قواعد التمويل البنكي الاسلامي التي لا تعتمد سعرالفائدة اداة للتمويل والاقراض وتلغي دور الوساطة المالية التقليدية لصالح قطاع الاستثمار المنتج ومن ثم تخفيض احتمالية تعرض البنوك لمخاطر التمويل.

 ولاغرابة ان يتبلور هذا الاتجاه في عدد من الخطوات التي اتبعتها بعض الدول تجاه فسح المجال لعدد من ميكانيكيات التمويل الاسلامي للعمل في حقل النشاط المصرفي واعتمادها بديلا عن سعر الفائدة التي يتجنبها، مثلما طبق مختبريا في فرنسا اسوة بالعديد من دول جنوب شرق آسيا السباقة بتجربتها الرائدة مثل ماليزيا واندونيسيا وباكستان وتجارب عدد من دول غرب افريقيا كالسنغال وغيرها من الدول التي اعتمدت قواعد التمويل الاسلامي بديلا ناجحا لتجنب ازمات التمويل ،اذ يستمد قدرته على تجاوز الازمات من كونه يدعم ركيزة الاستثمار الحقيقي المقيد بقواعد المال من المنظور الاسلامي والفلسفة  الاقتصادية التي تسعى لبلوغ  التوازن الكلي بين القطاعين الحقيقي والنقدي في ضوء رؤية للتنمية الشاملة.

لذا يمكن تحليل الأزمة المالية من منظور التمويل الاسلامي عبر الآتي:

 ان الاعتماد على ميكانيكية الاشتقاق الودائعي في ظل اداة سعر الفائدة لتمويل عمليات النشاط البنكي ادى الى وقوع  البنوك في سوء ادارة مخاطر التمويل ومصيدة التضخم التي نتجت عن سياسة الفيدرالي المتشددة والتي ولدت ارتفاع مستويات التضخم و تآكل القيمة الحقيقية للسندات طويلة الاجل التي تشكل بطبيعتها الاستثمار الاستراتيجي لبنوك التمويل المنهارة، لذا فلاغرابة ان نجد اخطاءا كبيرة في معالجات البنوك كما في بيعها للاصول المنخفضة العائد  بأسعار أقل من قيمتها لضمان الحصول على السيولة لمواجهة السحوبات ، بل يلاحظ ان بعض البنوك اتجهت الى رفع حجم رؤوس اموالها، أو حتى بيعها، ما كان له آثاره السلبية في تصدير الأزمة إلى البورصة وارتفاع مؤشرات الذعر المالي، وتراجع أسهم البنوك والقطاع المالي ومنه تسارع الازمة ثم الانهيار، كونها بنوكا لم تتبع سياسات استثمار حقيقية مرنة تستهدف تنويع المحفظة بل اعتمدت  كليا على نشاط  الاقراض والتسهيلات المالية للشركات الناشئة التي ادت الى توازن الفقاعة المالية نتيجة لاتساع الفجوة ين ماهو حقيقي وما هو اسمي، انعكس على قدرة البنوك في مواجهة الطلب على الودائع وزيادة خسائرها من الاصول المالية فضلا عن تآكل رؤوس اموالها وتعرضها للمخاطر وسوء ادراتها .

هشاشة الاقتصاد المتولد عن التوازن المالي التقليدي الذي يعاني من الاضطرابات التي تضرب القطاع البنكي، فيوسع من الفجوة بين القطاعين الحقيقي والنقدي بما ينعكس على الطلب وسوق العمل والتضخم.

أدت عمليات الاشتقاق الودائعي في ظل اداة سعر الفائدة الى تحول ميكانيكية انتقال أثر السياسة النقدية الى نظام الاسعار من دون المرور بالقطاع الحقيقي مما يدعم فكرة تحريم الفائدة كونها تعمل وبالتعاون مع نظام الودائع على ترسيخ الاختلال في التوازن بين القطاعين الحقيقي والنقدي.

يمارس نظام اشتقاق الودائع او ما اصطلح عليه خلق النقود تأثیرا على مستويات العرض النقدي وعلى المستوى العام للأسعار ، في حين ان دور النقود في  الاقتصاد الإسلامي ينحسر في كونه وسیطا للمبادلة، ومقیاسا ومخزنا للقيمة، من دون اشتقاق او خلق للنقود، على الرغم من الاختلاف الطفيف في اراء بعض الفقهاء بعدم امكانية نفي قدرة المصارف الإسلامیة على اشتقاق النقود والودائع، بل يتم الاشتقاق طبقا لھیكل موجودات ومطلوبات من الصيغة الاسلامية.

 يستدل مما سبق ان التمويل الاسلامي يطرح شرطا اساسيا لاستقرار نظام التمويل بأقل الازمات في توليد مخرجات  النشاط الاقتصادي، من خلال تنظيمه للعلاقة التساهمية العضوية بين رأس المال والعناصر الأخرى من العمل أو الأرض أو التنظيم، عبر توجيهها نحوالقطاعات الاقتصادية لانتاج القيم الاقتصادية الحقيقية من سلع وخدمات .اذ  تستهدف قواعد التمويل الاسلامي النشاط الاقتصادي بشكل مباشر من دون وساطة مالية او اشتقاق ودائعي بغية تعديل اتجاه الاستثمار نحو ما يحقق القيمة المضافة من الناتج الحقيقي لقطاعات التنمية،ومن ثم يحد من مستويات التضخم وفجوة القطاعين الحقيقي والنقدي كونهما الاخطر في نظام سعر الفائدة اداة للتمويل والاقراض، على بلوغ الاستقرار في التوازن الاقتصادي الكلي.

یتضح من قواعد الإطار العام للنشاط  المصرفي الإسلامي أن العامل الفاصل في قدرة المصارف الإسلامیة باختلافها عن مثيلتها التقليدية في انها لاتستند الى خلق الودائع والنقود بل ینحصر في ان مصادر الأموال واستخداماتھا قائمة في المصرف الإسلامي على مبدأ المضاربة المبني على المشاركة في الربح والخسارة.

لذا فان الازمة المالية لبنوك التمويل الدولي وكثير من المؤسسات المالية انما نشأت من خلال اعتماد النشاط المالي على قواعد الاشتقاق الودائعي واهمال النشاط الحقيقي الى الدرجة التي تعرض دورة المال والاقتصاد الى اختناقات ثم ازمات كثيرة، على العكس لدى التمويل الاسلامي فان المعاملات الاسلامية المشروعة كالمشاركة، والمرابحة ،والمضاربة، والاستصناع، والمزارعة، وبيع السلع، والبيع الآجل، والإجارة، وصيغ التامين التكافلي والصناديق الاستثمارية وغيرها كثير ، كلها تعمل في اطار انتاج القيمة الاقتصادية وهو مايعطي القوة والقدرة للتمويل الاسلامي على تجاوز الازمات المالية التي تنشا في هذا الاطار. وكذلك تستهدف آليات التمويل الاسلامي ادارة القروض والديون في ظل سياسات التنمية التي تدعم مبدا البر والاحسان كالزكاة والقرض الحسن بعيدا عن العوائد الربوية التي من الممكن ان تنتج صورا مختلفة من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية .


مشاهدات 1065
أضيف 2023/05/02 - 3:43 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 10057 الشهر 65535 الكلي 7902488
الوقت الآن
السبت 2024/4/20 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير