القرار في خفض الدينار: علقم العلاج أم لوقف الإنهيار
الدكتور مهند طالب الحمدي

تم إرسال شرطة مكافحة الشغب لحماية مقر البنك المركزي العراقي  في وسط بغداد قبل الإعلان عن تخفيض قيمة العملة المحلية خوفاً من اندلاع احتجاجات شعبية. أثار قرار الحكومة العراقية بتخفيض قيمة الدينار أمام الدولار الأمريكي بنسبة 20% تقريباً ضجة في الشارع العراقي.

 

أشار بيان البنك المركزي العراقي بشأن هذا التخفيض "يجب التأكيد هنا على أن هذا التغيير (التخفيض) في قيمة الدينار العراقي سيكون لمرة واحدة فقط ولن يتكرر". وأضاف البيان "البنك المركزي سيدافع عن هذا السعر واستقراره بدعم احتياطياته من العملات الأجنبية التي لا تزال عند مستوياتٍ مستقرة".

 

ألقى البنك باللوم على السياسات الاقتصادية السيئة خلال العقد الماضي. وقال إنه "ليس أمامه خيار سوى التدخل" لأن التخطيط الاقتصادي السيئ والسياسات المالية من جانب السياسيين العراقيين أدت إلى تحويل العراق إلى دولة مصدرة للنفط لاغير مع توجه الجزء الأكبر من نفقات الدولة لدفع أموال للقطاع العام المتضخم.

 

أشارت تقديرات غير رسمية إلى أن الحكومات العراقية المتعاقبة التي أعقبت تشكيل أول سلطة عراقية بعد الغزو عام 2003، كانت مسؤولة عن اختفاء نحو ربع تريليون دولار، كانت مخصصة لإصلاح قطاعات الصحة والتعليم والكهرباء وإصلاح الخدمات العامة.

 

وصلت الحكومة العراقية إلى هذا القرار بعد أن عجزت عن دفع رواتب موظفيها لشهرين متتاليين، واضطرت للاقتراض من البنك المركزي العراقي وأطراف داخلية أخرى. تبيع الحكومة النفط بالدولار الأمريكي الذي تستخدمه لشراء الدينار العراقي من البنك المركزي لتمويل الرواتب والخدمات العامة. تخفيض قيمة العملة المحلية مقابل الدولار يعني أنها ستحصل على المزيد من الدنانير العراقية من البنك المركزي.

 

ثبت البنك المركزي العراقي قبل سنوات سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار الامريكي وهو 1119 ديناراً عراقياً للدولار. وعلى الرغم من ظهور سوق سوداء موازية تبيع الدولار بسعرٍ أعلى، كان الفرق ضمن هامش المناورة الاقتصادية المسموح به. ومع ذلك، شهدت الأشهر الأخيرة تقلبات كثيرة في سعر الصرف، بسبب جائحة فايروس كورونا والأزمة المالية العالمية المصاحبة له، وتراجع عائدات العراق النفطية بعد تقليص حجم صادراته النفطية.

على الرغم من أن البنك المركزي العراقي مستقل، إلا أن الحكومة ضغطت من أجل هذا التخفيض، وهو الأكبر في العراق منذ عام 2003، لتمكينها من دفع رواتب مقومة بالدينار لأكثر من أربعة ملايين موظف حكومي. أثار قرار خفض قيمة العملة حفيظة العاملين في القطاع العام. ويخشى كثيرون أن ضعف الدينار، وكذلك الخطط المقترحة في الميزانية لخفض الرواتب وفرض الضرائب، ستكون بمثابة تخفيضات قاسية في الأجور.

رد الفعل الشعبي:

أثار قرار البنك المركزي العراقي بخفض قيمة الدينار حالة من الذعر بين العراقيين الذين سارع كثيرون منهم إلى مكاتب الصرافة لشراء الدولار، وإلى المتاجر الكبرى لشراء المؤن وتخزينها.

 

تجمع عدة مئات من المتظاهرين في ساحة التحرير الشهيرة ببغداد، للاحتجاج على الانخفاض المفاجئ في قدرتهم الشرائية وحثوا الحكومة على إعادة النظر في قرارها. رفع متظاهر شاب لافتة كتب عليها "قبل الدينار الحكومة هي التي يجب أن تنهار". كان بين المتظاهرين بشكلٍ خاص أعداد من كبار السن والمتقاعدين الذين ينتقدون الإجراء الذي أدى إلى خفض قيمة رواتبهم التقاعدية إلى حدٍ كبير.

 

كذلك تجمع مئات المتظاهرين يوم الاثنين في مدينة الكوت حيث قال تجار إنهم سيضطرون حالياً إلى تقليل الواردات لأنهم يدفعون بالدولار الأميركي ثمن المنتجات التي يشترونها من الخارج. رفع تجار المواد الغذائية الزراعية وتجار الجملة في مدينة الناصرية أسعارهم بنسبة 20%، بحسب مراسل وكالة فرانس برس. في مدينة البصرة،  أكد رئيس الفرع المحلي لمفوضية حقوق الإنسان السيد مهدي التميمي أن ارتفاع الأسعار جاء بمثابة صدمة للمستهلكين.

 

لعنة النفط أم نعمته:

يعتمد ثاني أكبر منتج للنفط الخام في منظمة أوبك على صادرات النفط بالكامل، وقد انخفضت عائدات بغداد في الواقع إلى النصف بسبب انهيار أسعار النفط. ترك ذلك الحكومة عاجزة عن تغطية تكاليفها. يتوقع صندوق النقد الدولي أن يتسع العجز المالي للعراق إلى 20% من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام.

 

تسبب انخفاض عائدات النفط في الضغط على احتياطيات البنك المركزي العراقي من العملات الأجنبية، والتي قال البنك الدولي إنها انخفضت إلى حوالي 50 مليار دولار بحلول شهر أيلول الماضي، مما أجبر الحكومة على الاقتراض بكثافة لدفع الرواتب. تضاعف حجم القطاع العام في العراق أكثر من أربعة مرات منذ الغزو عام 2003، وأصبحت الحكومة ببساطة أكبر رب عمل في البلاد. لكنها تأخرت في دفع رواتب الموظفين والمتقاعدين في شهر تشرين الثاني، مما تسبب في اضطرابات اجتماعية.

 

مع توقع البنك الدولي أن يرتفع معدل الفقر بشكلٍ حاد مع انكماش الاقتصاد المعتمد على النفط، فإن الوضع المالي للعراق المنهك من الحروب والفساد خطير للغاية لدرجة أن العراق يجري محادثات مع صندوق النقد الدولي للحصول على الدعم. يقول السيد سجاد جياد، الزميل في مؤسسة سنتشري للأبحاث من مكتبها في بغداد، إن تخفيض قيمة العملة "يرسل إشارة إلى صندوق النقد الدولي وآخرين حول مدى اليأس الذي بلغه الوضع وأن العراق مستعد لاتخاذ بعض هذه الخطوات المؤلمة،" أي المسير نحو مزيد من التقشف المالي.

 

لكن مع اعتماد العراق على الواردات، من المرجح أن يؤدي إضعاف الدينار إلى حدوث تضخم. ظلت الأسعار منخفضة حتى الآن، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن أكبر شريكين تجاريين للعراق، إيران وتركيا، شاهدا انخفاض كبير في قيمة عملتهما. يقول السيد سجاد: "بالنسبة لعامة السكان، هناك قلق من أن أسعار المواد الغذائية سترتفع، حيث مازالت البلاد تستورد معظم المواد الغذائية".

 

حذر وزير المالية السيد علي علاوي من أن العراق لابد أن يتخذ إجراءات جادة لإصلاح النفقات، التي تضخمت مع استخدام السياسيين التوظيف العام لشراء الأصوات والولاءات. نصح صندوق النقد الدولي هذا الشهر الحكومة العراقية في بناء ميزانيتها لعام 2021 إعطاء الأولوية "لعكس التوسع غير المستدام لتكلفة الرواتب والرواتب التقاعدية، وتقليل الدعم غير الفعال للطاقة، وزيادة الإيرادات غير النفطية". أضاف السيد وزير المالية بالقول "إن أحد الأسباب الرئيسية لتخفيض قيمة الدينار هو دفع الدورة الاقتصادية إلى الأمام وتنشيط القطاع الخاص والإنتاج المحلي لتلافي عجز حاد في الميزانية". وقال كذلك "ما تم القيام به هو خطوة استباقية. بدون هذه الخطوة، سيحدث تضخم هائل. سنصطدم بمشاكل لاقبل لنا بها ".

 

يقول الوزير إن الاحتياطيات الأجنبية للبلاد يمكن أن تنضب في غضون ستة إلى سبعة أشهر إذا بقي الإنفاق الحكومي على المسار الحالي دون تغيير سعر الصرف. قد يصل عجز الميزانية في 2021 إلى 100 تريليون دينار (84 مليار دولار) بدون هذه الخطوة .ويتوقع صندوق النقد الدولي أن ينكمش اقتصاد العراق بنسبة 12٪ هذا العام، أي أكثر من أي دولة عضو أخرى في أوبك.

 

يقول السيد زياد داوود، الاقتصادي المتخصص في دراسات الأسواق الناشئة في مؤسسة بلومبرغ: "كان تخفيض قيمة العملة أمر لا مفر منه في ضوء انخفاض أسعار النفط وضغوط الميزانية التي يواجهها العراق." ويضيف بالقول "من المهم أيضاً مراقبة الاستجابة الشعبية للزيادة الناتجة في تكاليف المعيشة وبرنامج التقشف الحكومي ".

 

منذ انهيار أسعار النفط في وقت سابق من هذا العام، بدأ العراق يعاني من أزمة سيولة غير مسبوقة. واضطرت الدولة إلى الاقتراض من احتياطيات البنك بالدولار لدفع ما يقرب من 5 مليارات دولار شهرياً كرواتب لموظفي القطاع العام والرواتب التقاعدية. لكن عائدات النفط، التي تشكل 90٪ من الميزانية، تأتي، في المتوسط بمبلغ ​​3.5 مليار دولار.

وفي خطوة نحو التقشف، تدعو ميزانية الدولة المقترحة لعام 2021 أيضاً إلى إنفاق قياسي يتوقع عجزاً يقارب 40 مليار دولار. صوت مجلس الوزراء على الموازنة وأرسلها الى البرلمان حيث من المتوقع أن تواجه معارضة قوية. لكن العارفين بخبايا السياسة العراقية يقولون انها ستمر في النهاية حسب رغبة قادة الكتل والاحزاب السياسية المتنفذة.

 

على مدى العقدين الماضيين، خلق الفساد مشكلة ذات حدين للعراق. الحكومات العراقية الضعيفة والشمولية والمبنية على أساس المحاصصة الطائفية تعني أن كل حزب سياسي كبير يدير ​​وزارة واحدة أو أكثر. لا يديرون هذه البيروقراطيات لصالح البلاد ولكن كشبكات محسوبية ضخمة: آلات فساد تمتص عائدات النفط من الخزينة وتمررها إلى جمهورها في شكل وظائف وعقود وامتيازات أخرى. أدى انتشار الكسب غير المشروع إلى خنق ما كان يملكه القطاع الخاص الصغير في العراق سابقاً، مما يعني أنه لا يوجد الكثير من البدائل لوظائف القطاع العام.

 

وعليه، فليس من المستغرب أن تكون هناك زيادة بأكثر من أربعة أضعاف في عدد العاملين في القطاع العام منذ عام 2004، وتدفع الحكومة رواتب تزيد بنسبة 400% عما كانت عليه قبل 15 عاماً. وهكذا أصبحت الحكومة وعائداتها النفطية المحرك الرئيسي للاقتصاد العراقي والذي يمنح للشعب العراقي فرصة المعيشة.

 

يقول الخبير الاقتصادي العراقي السيد منير العبيدي في حديثٍ لقناة الحرة أن تأثير خفض العملة سيكون سلبيا في بداية المرحلة، والتي "ستستمر لستة أشهر أو سنة"، وبعدها "ستساهم في تحسين الناتج المحلي من القطاعات المختلفة كالقطاع الصناعي والزراعي والخدمي، لأنها ستزيد نشاط هذه القطاعات".

 

لكن صناعيون عراقيون يقولون أن الحديث عن أن قرار خفض قيمة العملة العراقية سيؤدي إلى تشجيع الصناعة المحلية "مفرط في التبسيط". يقول الصناعي العراقي، السيد معتز كمونة في حديثٍ للقناة نفسها، إن "الصناعة تحتاج بنى تحتية من كهرباء ومجاري وخطوط مياه وخطوط نقل وتسهيلات استيراد وتصدير، وهذه كلها غير متوفرة". ويضيف أن "المواد الأولية ارتفعت قيمتها بعد خفض قيمة الدينار لأنها مستوردة، مما يعني ارتفاع الكلف كما أن سنوات العطالة الصناعية العراقية أفقدت العراق ميزة مواكبة الدول الأخرى تكنولوجيا ودمرت البنى التحتية القديمة".

 

هل من يدٍ تمتد للعراق:

سوف يشل تخفيض قيمة العملة، دون أن يصاحبها إصلاحات اقتصادية والتي ترفض القوى السياسية في العراق النظر فيها، الواردات ويقوض المدخرات ويزيد من المصاعب. إذا كانت حكومة الولايات المتحدة على استعداد لتقديم بعض العون، فمن المحتمل أن يرغب العديد من الدول الأخرى المشاركة أيضاً. من المتوقع أن تقوم المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ودول الخليج وحتى بعض الدول الأوروبية ودول شرق آسيا بتقديم بعض الأموال.

 

أزمة العراق هي أزمة سيولة. سيحتاج العراق إلى المال لمنع انهيار نظامه المالي، والذي ربما سيقود إلى دخول البلاد في دوامة عنف لا تحتويها حدودها. لو تعهدت الولايات المتحدة بتقديم مبلغ معين، ربما مليار دولار، سيكون من الممكن تجميع حزمة بحدود 5 مليارات دولار لمساعدة العراق بالتعاون مع دول أخرى. قد تبدو فكرة تقديم مليار دولار لدعم الميزانية الطارئة للعراق صعبة جداً في الوقت الحالي. لكن لاينبغي أن يتم النظر للامر كذلك. كان ينبغي أن تتعلم الولايات المتحدة خلال السنوات العشرين الماضية درسين مهمين حول هذا الجزء من العالم. أولاً  ما يحدث في الشرق الأوسط لا يبقى هناك. وثانياً، أوقية واحدة من الوقاية أفضل من قنطار علاج، كما أظهرت سياسات واشنطن المأساوية تجاه العراق وسوريا وليبيا.

 

*أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة ولاية كنساس، الولايات المتحدة الأمريكية.

 

 

 

 

 


مشاهدات 2122
أضيف 2020/12/24 - 10:06 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 313 الشهر 65535 الكلي 7644253
الوقت الآن
الجمعة 2024/3/29 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير