لماذا يتم إحياء فكرة صناعات إحلال الواردات؟

خلال ربع القرن الماضي، تحقق النمو الاقتصادي بشكلٍ سهل في العالم النامي بحيث يصعب تذكر الايام التي سبقته. بدعمٍ من العولمة، تضاعف الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد في الاقتصادات الناشئة أكثر من الضعف بين عامي 1995 و 2019، بمقياس تعادل القوة الشرائية. في المقابل، كان النمو في البلدان المتقدمة 44٪ فقط.

أدى التصاعد الكبير في النمو الاقتصادي إلى استمرار الجدل الذي استمر لعقودٍ من الزمن حول ما إذا كان يمكن للبلدان الفقيرة اللحاق بالبلدان الغنية وكيف يمكن أن يتم ذلك. لكن فترة النمو المتزايد في قطاع التجارة قد انتهت، ويتجه العالم الصناعي الى الداخل أكثر وأكثر. وعليه بدأت بعض الحكومات بنفض الغبار عن أفكار قديمة.

من بين تلك الافكار "صناعات إحلال الواردات" (Import Substitution Industries: ISI)، وهي استراتيجية تسعى إلى تطوير القدرة الصناعية المحلية من خلال حماية المنتجين المحليين من المنافسة الأجنبية. ربما تشعر بعض البلدان أنه ليس لها خيار سوى إعادة التجربة التي أثبتت فشلها الذريع لعقودٍ خلت من الزمن في العديد من بلدان العالم النامي. لكن نظراً لعدم توفر الظروف المُلائمة التي تساعد على نجاح الفكرة بشكلٍ عام في الاقتصادات الفقيرة، يبدو أن إعادة إنعاش الفكرة أمر محكوم عليه بالفشل.

بين عامي 1990 و 2008، ارتفعت حصة التجارة العالمية من الناتج المحلي الإجمالي العالمي من 39٪ إلى 61٪. سهلت هذه "العولمة المفرطة"، كما أطلق عليها الباحثان مارتن كيسلر وأرفيند سوبرامانيان من معهد بيترسون لدراسات الاقتصاد الدولي، حدوث التوسع الاقتصادي بشكلٍ سريع وواسع النطاق. بعد أواخر التسعينيات من القرن الماضي، فاق معدل النمو في الدخل للفرد في ما يقرب من ثلاثة أرباع البلدان النامية مثيله في الولايات المتحدة بمتوسط يزيد عن ثلاث نقاط مئوية في السنة. انتشرت سلاسل التوريد العالمية من خلال مرورها في العديد من البلدان النامية. أصبح لدى البلدان ذات القاعدة الصناعية الصغيرة، أو التي لا تمتلك قاعدة صناعية على الإطلاق، إمكانية تصدير السلع المُصنعة من خلال إيجاد منافذ في سلاسل الإنتاج، باتباع طرق مختصرة للتصنيع.

مع ذلك، يبدو أن عصر الانفتاح ذاك يقترب من نهايته. انخفضت حصة التجارة في الناتج المحلي الإجمالي العالمي بعد الأزمة المالية العالمية 2009-2007. في العام الماضي، كانت تلك النسبة أقل مما وصلته في قعر الركود الكبير عام 2008. ومن المتوقع أن ينخفض مستوى التجارة العالمي بأكثر من 9٪ هذا العام. في الولايات المتحدة وأوروبا، أدى نقص الإمدادات الطبية والعلاقة المتوترة مع الصين إلى إعادة الاهتمام بسياسات حماية المنتجين المحليين. لكن أكبر المستفيدين من العولمة المفرطة، مثل الصين والهند، هم الذين يقودون طريق العودة إلى فكرة صناعات احلال الواردات. انخفضت حصة القيمة المضافة الأجنبية في الصادرات الصينية بنحو عشر نقاط مئوية من 2005 إلى 2016؛ وتهدف حملة حكومتها لتطبيق شعار "صنع في الصين 2025" إلى تحقيق اكتفاء ذاتي في إنتاج العديد من السلع الأساسية. في الهند، كشف رئيس الوزراء، السيد ناريندرا مودي، عن تدشين حملة للاعتماد على الذات كجزء من حزمة التعافي من تأثير جائحة كورونا في شهر آيار الماضي.

يُحاجج سياسيو الدول الفقيرة غالباً عندما يتعرضون إلى ضغوط من قبل قادة العالم الغني لتحرير اقتصادات بلدانهم، إن العديد من الاقتصادات المتقدمة اليوم مارست عناصر من استراتيجية صناعات احلال الواردات في فترات تحولها إلى التصنيع. استخدم الكسندر هاملتون، أول وزير خزانة أمريكي، التعريفات الجمركية كوسيلة لحماية المصنوعات المحلية وتقليل اعتماد الولايات المتحدة على بريطانيا. في القرن التاسع عشر، كان الخصوم الأوروبيون قلقين من أن تؤدي وفرة إنتاج المصانع البريطانية إلى إعاقة التنمية الصناعية في بلدانهم مما يجعلهم في وضع عسكري أدنى بشكلٍ دائم. فرضت الحكومات حواجز جمركية وحشدت رأس المال المحلي، الذي غالباً مايتم استخلاصه من القطاع الزراعي، نحو الصناعة المدعومة من قبل الدولة. قلدت روسيا واليابان تجربة دول أوروبا الغربية في تعزيز الصناعات المحلية باعتبارها مسألة تتعلق بالأمن الوطني.

مع ذلك، تُظهر التجارب السابقة أيضاً لماذا يبدو الاهتمام المُتجدد بصناعات احلال الواردات أمر يفتقر للحكمة والرؤية الواضحة. كانت ذروة تطبيق تلك الفكرة في خمسينيات القرن الماضي، عندما حاجج اقتصاديون معروفون مثل راؤول بريبيش وجونار ميردال الذي حاز على جائزة نوبل في الاقتصاد ضد إتباع نهج حرية التجارة في الاقتصادات النامية. كانت وجهات نظرهم مستنيرة بقيود عصرهم. في تلك الفترة، والتي شهدت حصول العديد من البلدان النامية على استقلالها، افتقرت البلدان الفقيرة بشدة إلى العملات الصعبة التي يمكن من خلالها الحصول على الواردات. حينها تم اعتبار استبدال بعض الواردات بالإنتاج المحلي وسيلة لتقنين استخدام النقد الأجنبي. بشكلٍ عام، رفض المدافعون عن استراتيجيات صناعات احلال الواردات فكرة أن التخصص والتجارة من شأنهما ن يجعلا كل اقتصاد في وضعٍ أفضل. كان الاعتقاد السائد هو أن البلدان الفقيرة التي تمسكت بميزتها في الأفضلية النسبية ستظل مُصدرة للمنتجات الأولية إلى الأبد، ولن تحقق قفزة إلى التصنيع وتحقيق دخول مرتفعة تجلبها الصناعة.

سرعان ما أصبحت عيوب استراتيجيات صناعات احلال الواردات واضحة. استخدمت العديد من الحكومات تلك الاستراتيجيات لمنح مزايا للصناعات المحلية بناءً على أسس المصالح السياسية الذاتية بدلاً من الحسابات الاقتصادية العقلانية. وعليه فقد الاقتصاديون المتحمسون الاهتمام والزخم الذي امتلكوه لتطوير اقتصاديات تلك البلدان. جعلت الحواجز الجمركية العالية بعض البلدان أقرب مايكون لكونها مغلقة أمام التجارة العالمية. في الوقت نفسه، تراجعت اقتصادات البلدان التي اتبعت استراتيجيات صناعات احلال الواردات في أمريكا اللاتينية وجنوب آسيا عن مجموعة من الاقتصادات الأخرى التي اختارت بدلاً من ذلك تعزيز صناعات الصادرات من خلال استخدام العمالة الوفيرة الرخيصة.

لم يكن التوجه نحو التصدير طريقاً مضموناً لتحقيق التنمية، حيث كانت قصص نجاح دول مثل كوريا الجنوبية وتايوان نادرة قبل أن تتسارع الأسواق الناشئة في التسعينيات. كما أنه لم يكن مسعى واضحاً لسياسة عدم تدخل الدولة في الاقتصاد، حيث تدخلت حكومات النمور الآسيوية على نطاق واسع في اقتصاداتها، وقدمت الدعم للصناعات والشركات التي فضلتها. لكن المنافسة العالمية فرضت ضغوطاً لا هوادة فيها على المُصدرين، مما أجبرهم على أن يُصبحوا أكثر كفاءة وشجعت على اكتساب المعرفة التقنية. الدول التي بقيت تتبع استراتيجيات صناعات احلال الواردات، التي تحميها الرسوم الجمركية المرتفعة، تميل لان تكون اقتصادات صغيرة وغير كفوءة ومسترخية امام التقدم التقني الذي تتخلف عنه وبتزايد كل يوم.

جوهر مسألة الواردات المُتعاظمة:

ماذا يعني كل هذا في إعادة الصحوة لاستراتيجيات صناعات احلال الواردات اليوم؟ في اقتصادات ذات أسواق محلية الكبيرة ودول متمكنة، قد تسمح عملية استبدال الواردات للحكومات بتحقيق أهداف استراتيجية دون دفع الشركات إلى التقاعس عن تحقيق النمو. ربما تُعد الصين مثلاً في هذا المجال. لكن في الهند، حيث يتميز السوق المحلي بالفقروعدم وجود تكامل كافٍ، فإن تلك الاستراتيجية تبدو أكثر خطورة.

في الاقتصادات الأصغر ذات المؤسسات الضعيفة، فإن السياسات المُتعلقة بصناعات احلال الواردات محكوم عليها بالفشل. يُعّد المستهلكون والمنافسة والتقنيات التي لا تستطيع الاقتصادات النامية الحصول عليها إلا في الأسواق العالمية شروطاً أساسية لتمكنها من الانتقال الى التصنيع. لو ركزت الاقتصادات الكبرى في العالم على مصالحها الإستراتيجية وحدها، فإنها ستحرم الآخرين من الوصول إلى هذه الموارد القيمة، وسيصبح العصر الذهبي لنمو الأسواق الناشئة ذاكرة باهتة أكثر من أي وقت مضى.

* أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة ولاية كنساس الأمريكية.


مشاهدات 1093
أضيف 2020/12/02 - 10:00 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 2857 الشهر 65535 الكلي 7984972
الوقت الآن
الجمعة 2024/4/26 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير