خسائر البنوك المركزية
د. مهند طالب الحمدي أستاذ الاقتصاد في جامعة ولاية كنساس الأمريكية

إذا كانت البنوك التجارية التي تواجه خسائر مصدراً للقلق، فمن المؤكد أن تكون خسائر البنوك المركزية، وهي بنوك البنوك، أمراً مُقلقاً بشكلٍ خاص. تبدو القيمة المتدنية للأصول التي يحتفظ بها بنك اليابان والبنك الوطني السويسري علامة أكيدة على أن البنوك المركزية تصرفت بتهور وجعلت اقتصادات بلدانها تتعرض للخطر. يعكس القلق بشأن عمليات شراء السندات في ألمانيا، حيث اشارت المحكمة الدستورية في يوم 5 آيار أنها قد تمنع البوندزبانك (البنك المركزي الألماني) من المشاركة في برامج شراء الأصول التي طرحها البنك المركزي الأوروبي، جزئياً هذه المخاوف. لكن البنوك المركزية ليست مثل البنوك التجارية. خسائر البنوك المركزية لا تظهر الضعف المالي، بل هي تذكير بموقعها المؤسسي الغريب.

كيف يتكبد البنك المركزي الخسائر؟ كحال البنوك الخاصة، لدى البنوك المركزية ميزانيات. تحتوي هذه الميزانيات على أصول: مثل السندات الحكومية، والإلتزامات: والتي تشمل أرصدة التوفير العائدة للمؤسسات المالية الخاصة والتي يدفع البنك المركزي عليها الفوائد، وهي أرصدة مماثلة للحسابات الجارية في البنوك في الأسواق العامة. يتكبد البنك المركزي خسارة إذا انخفض الدخل الذي يجنيه من الأصول التي يملكها إلى أقل من الفائدة التي يدفعها على التزاماته المالية. يمكن أن يؤدي انخفاض قيمة الأصول أيضاً إلى خلق فجوة في ميزانية البنك المركزي، ويصبح البنك المركزي بحاجة إلى أموال لإصلاح ميزانيته العمومية. تميل أرباح البنك المركزي بشكلٍ عام للذهاب إلى الحكومة؛ ففي عام 2019، على سبيل المثال، تدفق صافي دخل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الذي بلغ 55 مليار دولار إلى الخزينة المركزية للبلاد.

نمى نطاق خسائر البنوك المركزية بشكلٍ كبير في الفترة الأخيرة. مع استمرار الأزمة المالية العالمية في عام 2007، خفضت العديد من البنوك المركزية معدلات الفائدة الرئيسية إلى الصفر من أجل إنعاش الاقتصادات المنهارة. ومن أجل ضخ المزيد من أموال التحفيز، تحول معظم البنوك المركزية إلى إتباع سياسة التسهيل الكمي: استخدام الأموال التي تم خلقها مؤخراً لشراء الأصول ذات المخاطرة الأكثر مثل السندات الحكومية طويلة الأجل والأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري، وفي بعض الحالات، الأسهم. تعني عمليات شراء الأصول في إستجابة البنوك المركزية لإنتشار وباء كورونا أن ميزانيات البنوك المركزية قد تضخمت بشكل أكبر. منذ أواخر شهر شباط، على سبيل المثال، تضخمت أصول بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بنحو 60٪. أدت كل من إجراءات البنوك المركزية والشهية الأوسع لإمتلاك الأصول الآمنة نسبياً إلى تضخيم أسعار السندات الحكومية في جميع أنحاء العالم الغني. لو إنخفضت أسعار السندات الحكومية مع تعافي الاقتصادات، على سبيل المثال، فقد تتكبد البنوك المركزية خسارة عندما تقرر تقليص حجم ميزانياتها عن طريق بيع السندات.

تزيد الأشكال الجديدة من عمليات الإقراض في حالات الطوارئ من مخاطر الائتمان المباشرة والتي تتعرض لها البنوك المركزية أيضاً. يتعامل البنك المركزي الأوروبي بكميات كبيرة من سندات القطاعين العام والخاص. يشتري بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي سندات الشركات والأوراق المالية التي تصدرها البلديات، والقروض المصرفية التي قدمتها البنوك للشركات من جميع الأحجام. يحمي قانون إنقاذ اقتصادي تم سنه مؤخراً في الولايات المتحدة بنك الإحتياطي الفدرالي في حالة تحقيق خسائر تصل إلى 454 مليار دولار. من المعلوم أن الخسائر قد تحققت بالفعل في أماكن أخرى. تعرضت محفظة بنك اليابان المالية لضربة كبيرة بحدود 30 تريليون ين (حوالي 270 مليار دولار) من صناديق الأسهم عندما انخفضت قيم الأسهم في وقت سابق من العام. وبالمثل، تراجعت قيمة الحيازات الكبيرة من العملات الأجنبية والأسهم التي تراكمت لدى البنك الوطني السويسري، كجزء من جهوده للحد من ارتفاع قيمة الفرنك السويسري.

ومع ذلك، فإن الخسائر في البنوك المركزية تختلف تماماً عن الخسائر التي تواجهها البنوك التجارية. قد يفقد البنك التجاري أذا أصبحت ميزانيته سالبة (أو ما يطلق عليه المنطقة الحمراء) ثقة دائنيه، بما في ذلك المودعون، مما قد يعرضه لخطر الإفلاس. بالمقابل، ليس لدى المودعين في البنك المركزي أي مكان آخر يودعون فيه أموالهم: ليس لديهم خيار سوى الاحتفاظ باحتياطياتهم لدى البنك المركزي. كذلك لا يمكن، في معظم الحالات، أن تنفذ السيولة النقدية لدى البنوك المركزية، من أجل أن تدفع ما تدين به، لأنها قادرة على خلق أموال جديدة حسب ماتراه ملائماً. (بالطبع هناك بعض الإستثناءات: في لبنان، تراكمت إلتزامات كبيرة بالعملة الصعبة على مصرف لبنان لا يمكن الوفاء بها من خلال إصدار المزيد من العملة المحلية).

بشكلٍ عام، لا يمكن للبنوك المركزية أن تنهار، ويتفق الاقتصاديون إلى حدٍ كبير على أن القيمة الصافية السلبية لميزانية البنك المركزي لا تشكل عائقاً أمام وضع السياسة النقدية. ومع ذلك، فإن من الناحية العملية، سيثير وضع البنك المركزي ذو رأس المال السلبي في الموازنة الكثير من التدقيق. إن البنك المركزي هو في نهاية الأمر جزء من مؤسسات الدولة، ومن بعض النواحي تشبه إلتزاماته المالية الدين العام. إن دفع الديون عن طريق إصدار النقود لايمنح البنك المركزي وضعاً جيداً، خاصة وأن الاحتياطيات التي يتم خلقها حديثاً تتطلب دفع فائدة عليها. قد يكون من الضروري وجود بنك مركزي ذو ميزانية موجبة حتى يكون النظام النقدي والمالي ذو مصداقية. إذا كان الأمر كذلك، يجب على دافعي الضرائب (أو الحكومات في الدول الريعية) في نهاية المطاف تغطية خسائر البنك المركزي، من خلال السماح له في الواقع بإستخدام بعض احتياطيات الحكومة، مما يؤدي إلى إبطال بعض التأثير التوسعي لسياسة التسهيل النقدي على المعروض النقدي. وعدت وزارة الخزانة البريطانية بالفعل بتعويض بنك إنجلترا عن أي خسائر تنتج عن عمليات شراء السندات في هذه الفترة.

علامة الفريق المميزة: لن تعود مرة أخرى.

عليه، تكشف خسائر البنوك المركزية هشاشة استقلاليتها عن الحكومة. بعد سنوات التضخم في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، بدأ الاقتصاديون ينظرون إلى إستقلالية البنوك المركزية عن تأثير النفوذ السياسي على أنه أمر حاسم: سمح لها ذلك بإثبات مصداقيتها مع الجمهور وبالتالي تحقيق أهداف سياستها. لكن السياسات النقدية تدفع ثمن السياسات المالية عندما يتم تحديد فوائد السندات الحكومية حسب مقدار شراء السندات. إذا تم رؤية إعادة الرسملة على أنها شيء ضروري، سيصبح البنك المركزي تحت رحمة السياسيين. ويبدو أن محافظي البنوك المركزية يأخذون هذه المخاطرة السياسية على محمل الجد. تشير الأبحاث التي أجراها البرفسور إيغور جونشاروف والبروفسور فاسو إيوانيدو من جامعة لانكستر والبروفسور مارتن شمالز، من جامعة أكسفورد، إلى أن من المرجح أن تعلن البنوك المركزية عن تحقيق أرباح صغيرة أكثر مما تعلن عن مواجهة خسائر صغيرة. يزداد هذا الاتجاه إطراداً عندما يكون محافظو البنوك المركزية أكثر قدرة على التحكم في التقارير المعلنة عن دخول البنك، وعندما يواجهون تدقيقاً سياسياً أكبر (على سبيل المثال، عندما يواجهون مسألة إعادة تعيينهم في مناصبهم). تواجه البنوك المركزية معضلة: رسم السياسة النقدية بشكلٍ مستقل مما يحفز الحكومة على محاولة التدخل، أو استباق التدخل السياسي من خلال تقليل الخسائر.

ربما يكون الحل هو الاعتراف بأن البنوك المركزية تعمل الآن بشكل وثيق مع الحكومات. أجبرت سنين من الاضطرابات المالية وانخفاض أسعار الفائدة البنوك المركزية على فعل المزيد، والتعاون مع السلطات المالية. وبدلاً من القلق من أن تؤدي الخسائر إلى تآكل استقلاليتها وتمكين سياسة مالية متهورة من قبل الحكومة، فقد يكون الوقت قد حان للاعتراف بأن للحكومات كذلك دور تؤديه في استقرار الاقتصاد، والمطالبة بأن تقوم بذلك بشكلٍ صحيح.

*أستاذ الاقتصاد في جامعة ولاية كنساس الأمريكية


مشاهدات 1207
أضيف 2020/06/09 - 8:56 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 131 الشهر 65535 الكلي 7892562
الوقت الآن
السبت 2024/4/20 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير